الجزائرالطاقةحوارات
أخر الأخبار

الجزائر تسعى لتعزيزِ إنتاجها من الغازِ وريادتها العالمية

الخبير في الشأن الطاقوي مهماه بوزيان لـ"المصدر":

  • الاستدامةُ البيئية المقرونة بالنموِّ الاقتصاديِّ يعزِّزانِ بعضَهما ويُرَسِّخانِ القيمةَ الاجتماعيةَ
  • التقديرُ الكمِّيُّ للاستهلاكِ الطاقويِّ الوطنيِّ أساسُ الكفاءةِ والاستدامة
  • الطاقاتُ المتجددة السلاحُ الحاسمُ للتكفُّلِ بتحدي الاستهلاك الكهربائيِّ أوقاتِ الذروة

في ظل التحديات العالمية المتنوعة التي تواجه قطاع الطاقة، يعتبر الحوار مع المسؤولين والخبراء في هذا المجال أمراً ضرورياً لفهم الراهن الطاقوي وتحديد الآفاق المستقبلية.

حاورته: أسماء براهيمي

يتطرق هذا الحوار في جزئه الثاني مع الباحث الأكاديمي والخبير في الشأن الطاقوي الدكتور مهماه بوزيان إلى دور الجزائر في الأسواق العالمية بالإضافة إلى التحديات البيئية التي تفرض ضغوطاً على القطاع دوليا، كما اغتنمنا فرصة الحديث عن أزمة الكهرباء ببعض البلدان.

1- ختمنا حوارنا في جزئه الأول بسؤال عن تزايد الاهتمام بالتكنولوجيا والابتكار والدور الذي تلعبه بالجزائر، فماذا عن تزايد الاهتمام بالمحافظة على البيئة والحد من التأثيرات السلبية للاستخدام المفرط للطاقة التقليدية؟ وكيف يمكن للجزائر تحقيق التوازن بين تحقيق الأهداف البيئية والتنمية الاقتصادية؟
في تصوري لا يوجد تعارض أو تضاد بين القيمة البيئية والقيمة الإقتصادية، لأنه في تقديري ينبغي أن تتحول القيمة البيئية إلى قيمة اقتصادية، وأن لا تتحجر المفاهيم البيئية في “مدوّنة النع” التي تُؤسس لكبح توسع ونمو الأنشطة الاقتصادية والإجتماعية، فالبيئة ينبغي أن تتموقع كنشاط ذاتي محفز لجودة الحياة وجودة المنظومة الإقتصادية، وأن تكون هي ذاتها نشاطا مدرًّا للقيمة الأقتصادية ومُعلية للقيمة الإجتماعية. ولنتعلم من دورة الطبيعة ومن البنية التحتية للأنظمة الطبيعية، ففي الأنظمة الطبيعية لا توجد نفايات، فماهو نفاية في سلسلة طبيعية ما، هو غذاء أو مدخلات مفيدة في سلسلة طبيعية أخرى. على سبيل المثال حين نتوجه إلى تطوير وإستنبات مبدأ التمثيل الضوئي صناعيا، وإلتقاط ثاني أكسيد الكربون مثلما تقوم به النباتات والاشجار، فبإمكاننا تطوير آليات صناعية لتنقية سلاسل الإنتاج من أكبر غاز مسبب لعامل الدفيئة، ألا وهو “ثاني أكسيد الكربون”، اليوم هناك العديد من محطات إلتقاط ثاني أكسيد الكربون عاملة في آيسلندا، والصين وسنغافورة، .. مع تطوير آليات صناعية لرسكلة ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى مادة جديدة مفيدة أو وقود جديد، مثلما تفيد به العملية الكيميائية لمفاعلة ثاني أكسيد الكربون مع الهيدروجين، حيث تنتج لنا هذه العملية ميثان إستخلاصي إضافة إلى الماء، ثم حين نقوم بتحليل هذا الماء بإستخدام نفس الميثان المصاحب له أو بإستخدام طاقة أخرى أكثر نقاوة، فإننا سنحصل على الهيدروجين، والذي نفاعله مجددا مع ثاني أكسيد الكربون، لنحصل مجددا على الماء والميثان، وهكذا تستمر الدورة دون توقف مادمنا بحاجة للتخلص من ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي فإن هذا الغاز الملوث والمقلق للعالم أجمعه والمسبب أساسا لظاهرة الإحترار العالمي المتفاقم بتفاقم إنبعاثات هذا الغاز (ثاني أكسيد الكربون) سيتحول إلى “مصدر جديد مبتكر لطاقة متجددة” منتجة للميثان الاستخلاصي والهيدروجين الأخضر. لكن هناك من الدول الصناعية الملوثة بكثافة من يحاجج بأن هذه التقنيات الخاصة بإلتقاط الكربون وإعادة تحويله إلى مواد جديدة مفيدة وأكثر نقاوة، هي تقنيات مكلفة وباهظة !! .. هنا أجد انه حان الوقت لنتحدث بصوت عال، ولنقول لهم أن المنطق الطبيعي يستوجب عليهم التوقف عن تقديم حلول مناخية احادية المنشأ والإتجاه والمصلحة، والسعي لفرضها على العالم الأجمع، لأن هذه الحلول التي يروجونا لها والقائمة على “إعدام مواردنا الطاقوية” والتي هي مكلفة إقتصاديا واجتماعيا لنا، و المعطلة لمواردنا خاصتنا، لا يمكننا قبولها، ليس فقط بمنطق الدفاع عن مصالحنا الحيوية، إنما تأسيًّا وتعاملا بنفس منطقهم الذي يقيس نجاعة الحلول المناخية بمنطق الكلفة المالية، حتى وإن كانت تلك الحلول ناجعة جدا، وستمكن العالم من التخلص مستقبلا من “ثاني أكسيد الكربون” بنفس وتيرة تطور الصناعات واستهلاك الوقود، لأن التقنيات المبتكرة ستمكن كلّ مصنع أو محطة طاقة ستُنشأ مستقبلا من تركيب آلية صناعية فيها لإلتقاط الكربون وإعادة تحويله، وبالتالي سيتم إمتصاص الملوثات في المنبع الصناعي والإنتاجي قبل تسربها إلى الغلاف الجوي.
كما أن الأعمال البيئة، في تقديري، ينبغي لها أن تتأسس هي ذاتها على الجدوى الاقتصادية والإجتماعية، لأن أية قيمة بيئية تخرق قواعد الاقتصاد، لن تكتب لها الإستدامة مهما حولنا إنعاشها، أمّا المشاريع البيئية التي تتوخى الجدوى فإنها ستحقق الهدفين الاقتصادي والاجتماعي والبيئي معا وسيكتب لها الحياة والنماء والإستدامة، ولن تكون عبئا على منظومة التمويل والإستثمارات. كما ان قطاع البيئة يتوجب عليه التحّول طوعيا من أجل الإضطلاع ببعث نشاطات وإنشاء مشاريع اقتصادية وصناعية، وأن لا يبقى المعطى البيئي متقوقعا فقط داخل منظومة من الإجراءات الرقابية على بقية النشاطات القطاعية الأخرى.
وبخصوص موضوع أزمة المناخ، أنا اليوم لا أتحدث من باب “رفاه التنظير” المنقطع عن واقع البشرية وراهن الإنسانية المفجوعة، والتى يجري قولبة يومياتها ضمن نطاق “عقيدة الخوف أو الرعب المستدام”، بل انا انطلق من خلل جوهري كامن في صلب “المقاربة المناخية المعولمة”، ومن التهديد الجاثم داخلها والذي يزرع الرعب ولا يستنبت الحلول، و إلا ما معنى أن نقرأ في تقرير “نقاط التحول العالمية”، الذي صدر في مطلع شهر ديسمبر 2023، تحذيرات من أن الأرض على وشك خمس (5) عتبات تحوّل مناخية كارثية (نقاط حرجة)، وبأن الإنسانية جمعاء أضحت تواجه “آثار الدومينو المدمرة”، أو تُطالعنا تقارير وعديد التصريحات التي تتوعد البشرية بالإنقراض المحتوم (الإنقراض السادس)، فمثلا هذا تصريح “سيمون ستيل” الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، أدلى به يوم 10 أفريل 2024، يقول فيه بانه “لم يتبق لنا سوى عامين لإنقاذ العالم”، وأنه ”لا تزال لدينا فرصة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، من خلال جيل جديد من خطط المناخ الوطنية، لكننا بحاجة إلى تلك الخطط الأقوى الآن“، وبأن “دول مجموعة العشرين مسؤولة معاً عن 80 من الانبعاثات في العالم، وهي بحاجة ماسة إلى تكثيف جهودها”.
وفي المقابل نجد إصرارا معولمًا للإبقاء على “حالة الحيود عن جوهر إشكالية المناخ”. كلنا ندرك بأن ظاهرة الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري هي ظاهرة يتسبب فيها تزايد تراكيز غازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون (CO2) ، والميثان (CH4) وأكسيد النيتروز (N2O) وبخار الماء (H2O)، … حيث نجد غاز “ثاني أكسيد الكربون “هو محور الاهتمام لكونه مسؤولا عن (65-75 ) من الاحترار الناجم عن غازات الدفيئة، ولطول مدة بقائه في الغلاف الجوي، ثم يأتي ثانيًّا غاز الميثان (CH4) كصاحب التأثير الأكبر على المناخ بعد ثاني أكسيد الكربون. ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أصناف الحياة على كوكب الأرض من حالة الدمار والإنقراض يُستنجد بالطاقات المتجددة كخيار أساسي وجوهري لتحقيق الإنتقال المناخي والبيئي. لكن التقديرات المرجعية تًشير إلى أن تحقيق الإنتقال الطاقوي عالميا بحاجة إلى حشد 67 عنصر معدني أساسي ومادة معدنية ومنجمية (65 عنصر معدني أساسي + الإسمنت + الهيدروجين). العناصر تشمل السليسيوم، والليثيوم، والكوبالت، والنحاس، و الألمنيوم، والحديد، والزنك، والفوسفات، والنيكل، وآلاتربة النادرة، … كلّها حين استغلالها ستكون ملوثة و مصدر انبعاثات لغازات الدفيئة. وفقًا لمعطيات السنة الماضية (2023) للرابطة العالمية للأسمنت والخرسانة، ولمضامين منشورات رابطة الصلب العالمي، ولتقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن تقديرات مجموع الإنبعاثات السنوية لثاني أكسيد الكربون (CO2) الناتجة عن نشاطات تعدين ثلاثة (3) معادن فقط (الحديد الصلب والإسمنت و الأَلُومِنْيوم،) بمستوى إنتاج سنة 2020، وبأفضل تقديرات خفض الإنبعاثات المنتهجة، هي في حدود (6,5 مليار طن)، أي ما يمثل (18,57 ) من اجمالي الانبعاثات العالمية، يعني أنها قًرابة الخمس (1\5) !!! .. لنتصور الآن حجم هذه الإنبعاثات لثلاثة (3) معادن فقط، في حالة تضاعف الطلب عليها، مدفوعة بمتطلبات خطط الإنتقال الطاقوي عالميا ..!!!! .. ولنتصور معها مجموع الانبعاثات الناتجة عن كاملة سلة المعادن الأساسية والمواد المنجمية (67 عنصر ومادة) الضرورية لتحقيق الإنتقال الطاقوي العالمي.
هنا يتبين لنا بأن تمركز المقاربة المناخية على ”شيطنة النفط والغاز“ وتسويق فكرة “الخروج من منظومة الوقود الأحفوري سريعا” كحــــل بديهي لا يقبل النقاش، هي فكرة عقيمة أشبه ما تكون كـ”الأحجية”، لأن المسبب الأساس لحالة الإختلال والإعتلال المناخي هو تزايد انبعاثات غازات الدفيئة وكثافة تراكيزها، وهذه الغازات ستتزايد انبعاثاتها حتى مع تحول العالم أجمع من الوقود الأحفوري نحو الطاقات النظيفة، لأن مسار إحلال الطاقات المتجددة عالميا بشكل كامل، والوصول إلى صافي الصفر من انبعاثات غازات الدفيئة، سوف يحتاج إلى استخدام المعادن الأساسية والضرورية لتجسيد الانتقال الطاقوي بزيادة ستة (6) أضعاف بحلول عام 2040 عما هو عليه الحال الآن .. إذا يتعين علينا إعادة ضبط بوصلة المعالجات المناخية، وإعادة صياغة المقاربة كإشكالية متمحورة حول “إستهداف خفض انبعاثات غازات الدفيئة” والخروج من التمحور الخاطئ القائم على استهداف “شيطنة النفط والغاز ونصب المشانق للوقود الاحفوري في المحافل الأممية”، لأننا سنخرج من الأحفوري لنسقط مجددا في بئر الأحفوري المكتنز بمعادن الإنتقال الطاقوي وتبقى انبعاثات غازات الدفئية في تزايد.
وهنا من حقنا تثمين المقاربة الجزائرية البيئية والمناخية المُدمجة للإحتجاز الطبيعي لثاني أكسيد الكربون، وهنا نستحضر مشروع توسعة السد الأخضر بالجزائر على مساحة مليون هكتار إضافية، بما سيسمح بغرس قرابة المليار شجرة، والمشروع المرافق الذي يعتزم مجمع سوناطراك تنفيذه من خلال برنامج طموح للإحتجاز الطبيعي للكربون، بدعم من المديرية العامة للغابات، يستهدف غرس 420 مليون شجرة على مساحة (520 ألف) هكتار في الجنوب الجزائري وفي منطقة الهضاب، سيُنفذ على مدار 10 سنوات، بقيمة واحد مليار دولار، والذي سيسمح بإمتصاص ما متوسطه (10,5 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا).

2- في سياق الحديث عن الطاقة المتجددة، كيف يمكن للجزائر الاستفادة من جميع مواردها الطاقوية، بما في ذلك الموارد التقليدية والمتجددة، بشكل متوازن؟
حتى نمكّن بعضنا البعض من مقدرة وسبل إستطلاع المسارات السليمة لتمكين بلدنا من إستغلال موارده بكل اقتدار وسيادة “سيادة طاقوية” ووطنية “وطنية الطاقة”، ونُجنب أنفسنا خطيئة الإنغلاق داخل بوتقة من الحتميات غير المحتومة علينا، أو من قبيل “لزوم ما لا يلزم”، يمكننا تقديم شرح مبسط لكيفية القيام بذلك، من خلال هندسة تصور مبني على “التقدير الكمي الإجمالي” للإستهلاك الطاقوي في مجموع قطاعات النشاط الوطني، على مدى السنوات المستقبلية، هذا التقدير يتأتى بناءً على تصور وضع مختلف القطاعات الوطنية مستقبلا، والتي يتعين علينا تخطيط كيفية تطورها ونموها من خلال مستهدفات كمية مخطط لها بعناية، مثلا كيف نخطط لتطوير قطاعات الفلاحة ونتصور مقادير الإنتاج فيها في سنوات 2030، و2035، و2045 وما بعدهم، وكذلك الحال بالنسبة للنسيج الصناعي وللصناعات المنجمية والصناعات التحويلية، والقطاع السكني وحجمه واتساعه مستقبلا وطبيعة وانماط المساكن فيه، .. وهكذا نبني الخطط السنوية والمرحلية التي في مضامينها نقوم بتوصيف إقامة المشاريع المحدّدة والمحقّقة للأهداف المرحلية عبر مختلف عديد السنوات القبلية للأجندة العامة، بحيث ان تراكم المنجز (الذي يجري إحلاله عبر مختلف هذه المشاريع المتلاحقة المدرجة في مخطط السياسة العامة للحكومة) سيقربنا من تجسيد المستهدافات الكلية المتوخاة في سنوات 2030، و2035، و2045 وما بعدهم، بحسب جودة الإنجاز والإلتزام والتعديلات المدخلة لاحقا تبعًا للضرورات.
هذا التخطيط هو الذي يمكننا من الوصول إلى “تقدير كمي” لحاجاتنا من الطاقة (كهربائية وحرارية) في مختلف القطاعات الوطنية، وبالتالي الوصول إلى تقدير كمي عددي لحاجتنا من الطاقة الإجمالية لتلبية الطلب المستقبلي عليها في السوق الوطنية المحلية، وبنفس المنطق نبني تصورا (حسب السيناريوهات المحتملة) لحالة الطلب الإقليمي والدولي على الطاقة وإمكانية التموقع الجيد لنا في السوق الطاقوية العالمية عبر صادراتنا الطاقوية بما فيها الكهرباء المتجددة والهيدروجين الاخضر.
ومن خلال هذا الجهد الوطني الذي يعنى بحشد الكفاءات البشرية والعلمية والبحثية والمقدرات المادية الوطنية لبناء تصور مستقبلي ينحى نحو التقديرات الواقعية وبكل إقتدار وعن وعي عميق ينْفَك عن التنظيرات الحبيسة الحتميات الزائفة، هذا الجهد الوطني الذي ينبغي أن يحظى بالأولوية الكاملة، سيمكننا من فهم طبيعة الطلب الطاقوي المستقبلي المرتبط بأنماط إستهلاك قريبة من الواقعية، ومع هذا الفهم المرتبط بـ”الواقع المستقبلي” الذي يتعين علينا بناءه بعقولنا وأيدينا بدءً من الآن، وليس مجرد تخيلات صادقة لرجال صالحين وأمنيات حالمة بغدٍ أفضل، هذا المستقبل الذي نستحضر فيه طبيعة التكنولوجيات والسيرورات الصناعية وبالتالي التعرف على أنماط الإستهلاك الطاقوي وأداءت قطاعات النشاط الوطني.
في المحصلة سنحصل على “مصفوفة” من العوامل المتشابكة التي تشتغل بشكل دائري، لأنها تغذي بعضها بعضًا مع مرور الزمن وتعاقب السنوات، وهو العمل المعقد والمتراكب لكنه الضروري، الذي سيمكننا من الوصول إلى تقديرات كمية عددية للإستهلاك الطاقوي الوطني النهائي، على الأقل على المديين القريب والمتوسط، وتلمس ذلك على المدى البعيد. هنا يمكننا المفاضلة بين مختلف المصادر الطاقوية الممكنة الإستغلال على تنوعها، و بعيدا عن منطق الحتميات الصورية، فالمصدر الطاقوي مهما كانت طبيعته (متجدد أو غير متجدد، تقليدي أو غير تقليدي) غير المجدي في الوقت الحالي اقتصاديا وإجتماعيا وبيئيا، من الممكن أن يكون مجديا ويمكن حشده وتجنيده في المزيج الطاقوي المستقبلي، فالجدوى الاقتصادية وتلبية الحاجات الإجتماعية ومراعاة الجوانب البيئية ومعاييرها التي ينبغي وضعها في دلائل مرجعية، هي التي ستحدد لنا إمكانية استغلالنا لمورد طاقوي من عدمها، بعيدا عن التوصيفات النظرية المحضة، وهذا ما نصطلح عليه بـ”هندسة النموذج الطاقوي الذكي المتين والمرن والقابل للنمو والإستدامة والمحقق لهما”، ومن خلال هذا التبسيط غير المخل بجوهر الموضوع في تقديري، سنصل إلى فهم وإدراك مشترك وتوافق على أهمية التخطيط لإستغلال مختلف مواردنا الطاقوية على تنوعها وثراء بلدنا بها، بعيدا عن المرافعات التي تتغذى من “إيديولوجيات المقدس” المستنبت خارج فضاءنا الوطني، لأن مصلحة الوطن هي المقدسة لدينا.

3- لا يمكننا الحديث عن القطاع دون ذكر المكانة التي فرضتها الجزائر لنفسها كمورد آمن وموثوق به للغاز الطبيعي في سوق عالمية غير مستقرة وتحديات جيواستراتيجية، كيف تعمل الجزائر على تعزيز بنيتها التحتية لضمان استدامة إمدادات الغاز الطبيعي للأسواق العالمية؟
في السنة الماضية 2023، شكّلت حصة الغاز الطبيعي قُرابة (67 ) من الإنتاج الطاقوي الأولي الإجمالي لدينا، أي أن ثلثي (2\3) الإنتاج الطاقوي في الحزائر كان عبارة عن غاز طبيعي، ومثّلت كمية مبيعاته قُرابة (69 ) من إجمالي مبيعات الطاقة المسوّقة في السوق الوطنية، كما شكّل (52 ) من إجمالي صادرات الجزائر من المحروقات، واستحوذ حجم الغاز الطبيعي المستهلك في محطات توليد الطاقة الكهربائية على نسبة (42 ) من الحجوم الكلية له المستهلكة في السوق الوطنية. كما مثّلت عائدات صادرات الغاز الطبيعي (31 ) من إجمالي صادرات المحروقات الجزائرية في سنة 2019، بعدها في سنة 2020 صعدت إلى نسبة (34 )، وبنسبة قريبة جدا منها (33,5 ) في سنة 2021، لتقفز إلى نسبة (45 ) في سنة 2022.
بالنظر إلى هذه النسب نلمس أهمية الغاز الطبيعي في مزيجنا الطاقوي الوطني، كما ندرك حجم الضغط على منظومة الغاز في بلدنا، بما يستوجب تجديد الإحتياطيات والرفع من الإنتاج، للإستجابة لحاجة الطلب في السوق الوطني المتزايدة بشكل مضطرد، وأيضا لتعزيز مكانتنا كمورد رئيسي للغاز الطبيعي في العالم، سواء عن طريق الأنابيب أو على شكل غاز مسال (مميع).
وفي قراءتنا لمشهد الطاقة المستقبلي خلال الـ (26 سنة) القادمة، خصوصا طبيعة التحول الذي ستشهده منظومة الطاقة الأوروبية عموما، وفي سوق الغاز خصوصا (إنتاجا واستهلاكا واستيرادا)، حيث من المتوقع أن يتحول الطلب الأوروبي على الغاز من (480 مليار متر مكعب) في سنة 2022 إلى من (300 مليار متر مكعب) في سنة 2050، سيقود الرباعي (ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، اسبانيا) خفضًا في استهلاك الغاز الطبيعي بحجم قدره (180 مليار متر مكعب). لكن هذا الخفض سيكون مدفوع بإنخفاض في إنتاج الغاز الطبيعي داخل دول الإتحاد الأوروبي بـ (125 مليار متر مكعب)، وبخفض في الواردات بمقدار (106 مليار متر مكعب). وبنزول حاد في صادرات الغاز النرويجية لدول الإتحاد الاوروبي من (85 مليار متر مكعب) في سنة 2030 إلى (30 مليار متر مكعب) في سنة 2050، مع تحوّل المملكة المتحدة إلى دولة مستوردة للغاز الطبيعي بحجم (47 مليار متر مكعب) في آفاق 2050.
هذا الوضع الطاقوي يضع الجزائر أمام الخيار التاريخي لتكون مستقبلا الممون الأساسي للإتحاد الأوروبي بالغاز الطبيعي، وضمن هذا التقدير والمنظور “تهدف استراتيجية الاستثمار التي وضعتها الشركة الوطنية سوناطراك إلى زيادة إنتاج الغاز الطبيعي إلى مستوى 200 مليار متر مكعب سنويا خلال السنوات الخمس المقبلة، وبأن يصل حجم الصادرات السنوية إلى 100 مليار متر مكعب، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الذي أمر بزيادة إنتاج الغاز الطبيعي”. حسبما كشف عنه وزير الطاقة والمناجم السد محمد عرقاب، يوم الأحد 26 ماي 2024. خلال ندوة صحفية عقدت على هامش أشغال الملتقى الوطني لمديري التوزيع بمجمع سونلغاز ومديري الطاقة والمناجم على مستوى الولايات. وقبل ذلك كان المدير العام للاستشراف بوزارة الطاقة والمناجم قد كشف لوكالة الأنباء الجزائرية بأن إنتاج الغاز الطبيعي، سينمو بمعدل (1,4 ) سنوياً، ليصل إلى 146,7 مليار متر مكعب في 2028.
كما أن الجزائر ستعزز من قدراتها في سوق الغاز الدولية من خلال ممارسة دبلوماسية الأنابيب والغاز الطبيعي المسال بكل اقتدار، فلطالما عرف تاريخ الغاز والنفط في شمال أفريقيا والشرق الأوسط خطوط الأنابيب العابرة البحر الأبيض المتوسط كمحركات حقيقية للتقارب الدبلوماسي. كما أن إيطاليا عبّرت علنا بأن الجزائر تعد المفتاح والبوابة الأساسية لتنفيذ “خطة ماتي” لتطوير التعاون بين إيطاليا وأفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط، والجزائر تعد الشريك التجاري الأول لإيطاليا في القارة و”الشريك الأساسي والأكثر استقرارا والأكثر استراتيجية”، وبالتعاون الوثيق مع الجزائر بإمكان إيطاليا أن تصبح “مركزًا للطاقة لأوروبا”، هكذا عبّرت رئيسة وزراء إيطاليا السيدة جيورجيا ميلوني، وأنه في مواجهة أزمة الطاقة الكبيرة التي تمر بها أوروبا على وجه الخصوص، يمكن للجزائر أن تصبح رائدة في الإنتاج، أفريقيا بالتأكيد، ولما لا عالميا، وإيطاليا هي حتماً البوابة إلى نمو وتدفق هذه الطاقة وإلى إمداد أوروبا بها، وكان هذا تصريحا تاريخيا لرئيسة وزراء إيطاليا خلال مؤتمر صحفي مشترك عقدته مع رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، بتاريخ 23 جانفي 2023، وخلاله أوضح، السيد عبد المجيد تبون، أنه تم التوقيع على اتفاق لدراسة وإنشاء خط أنابيب جديد للغاز “سينقل الغاز والهيدروجين والأمونيا وحتى الكهرباء”. وأن هذا المشروع “سيجعل من إيطاليا مركزا للطاقة في أوروبا”.

4– في الأخير، نشهد هذه الأيام غرق عديد الدول في الظلام بسبب أزمة الكهرباء، هل الجزائر بمنأى عن هذه الازمة؟ وكيف تساهم مصادر الطاقة المتجددة في تعزيز استقرار شبكة الكهرباء في الجزائر؟
من الناحية التقنية حين ترتفع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية فإن مستويات الأحمال لشبكات الكهرباء تصبح عرضة للإنقطاعات وحتى حدوث انهيارات محتومة لها. وكحقيقة لم تستثن انقطاعات الكهرباء دولة من الدول في سنوات سابقة، وحاليا لم تفرق هذه الانقطاعات بين دول قوية ودول ضعيفة بالمنظور الإقتصادي، فقد مسّت انقطاعات الكهرباء مرافقا حساسة في بريطانيا وغرقت دول البلقان في الظلام، وكذلك الإكوادور نتيجة شلل شبكة الكهرباء، وتعطلت خدمات المترو وحركة المرور وغيرها من الخدمات الحيوية. لكن المشهد المؤسف برز أثناء هذه الصائفة، أين شهدت دول نفطية ظاهرة انقطاع ممتد في التزود بالكهرباء بسبب عجز في محطات توليد الطاقة (الكويت، العراق، مصر، ..)، هذا المشهد الذي يستوجب قراءة له بشكل متأني بعيدا عن التسطيح أو التهويل أو التأويل، لأن “الكهرباء” تعد عنصرا حيويا لأية دولة وفي كل بلد، يحتم علينا استخلاص العناصر الكفيلة بتأمين منظومة الكهرباء لدينا وتعزيزها.
لذلك أجد بأن مساهمة الطاقات المتجددة في منظومتنا الوطنية للكهرباء ستمكّن من تعزيز قدرتها على الإستجابة بكفاءة لحالة الضغط عليها في أوقات الذروة وحين ارتفاع الطلب بشكل استثنائي في أوقات استثنائية. إن إدراكنا لتوافق ذروة الإنتاج في محطات الطاقات المتجددة (خصوصا الطاقة الشمسية، وطاقة رياح) مع ذروة استهلاك الكهرباء في فصل الصيف، يجعلنا على يقين بأن الحل الأمثل لمعالجة حالة الضغط على الشبكة الوطنية للكهرباء خلال فترات ذروة استهلاك الكهرباء يكون عن طريق إدخال الطاقة المنتجة من محطات الطاقة الشمسية وطاقة رياح للخدمة وضخها في الشبكة. حيث أننا حين ننظر إلى فترة الذروة النهارية لإستهلاك الكهرباء سنجدها تتمركز خلال ساعات (12سا – 16سا) وهي الساعات الأربع التي يكون فيها الإشعاع الشمسي في ذروته. نذكّر هنا أنه في السنة الماضية (2023) أنتجنا (90 تيرا واط ساعي) من الكهرباء، وبلغت ذرة استهلاك الكهرباء (18697 ميغاوات)، وبلغت قدرات الطاقة الكهربائية في الحظيرة الوطنية (25,239 جيغاواط) في 2024، ومتوسط الطلب الوطني على الكهرباء لا يتعدى مستوى تجنيد (14 جيغاواط) فقط كمتوسط سنوي. وبالتالي، وفقًا لهذه المعطيات نجد بأننا حاليا في حاجة لاستخدام الطاقات المتجددة لسدّ الفارق الذي هو في مستوى (8 جيغاواط)، وهي سعة الطلب الإستثنائية على الكهرباء والتي تتوزع على ساعات الذروة فقط، وبالتالي ستكون الكهرباء المنتجة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح عنصرا مساهما في ضبط الطلب على الكهرباء وفي استقرار الشبكة ضمن توقعاتنا لآفاق 2035، حيث سننتج (وفقا لسيناريو النمو المتوسط) ما مقداره (108 تيرا واط ساعي). كما أنه مع الطلب المتزايد على التهوية والتبريد، خصوصا في جنوبنا الكبير وفي منطقة الهضاب، فإن ارتفاع الطلب على الكهرباء سيكون عاملا متناسبا مع طبيعة محطات الطاقات المتجددة في الإستجابة للأحمال بخلاف محطات تربينات الغاز، وهذا من بين ميزات أفضلية استخدام الطاقات المتجددة في ساعات الذروة.
مع خالص الشكر والتقدير لكم، والإحترام والعرفان للقراء الأكارم، وسنة هجرية جديدة طيبة سعيدة للجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى